الأحد، 11 مايو 2008

الغرفة

الغرفة

بدأت الرواية بحجرةٍ حقيرةٍ يتدلى من سقفها مصباحٌ يتأرجحُ مع الريحِ ، ومقاعدٍ خشبيةٍ ناخرةٍ ، و أخرى من قشٍ منهكةٍ لا تتحملُ دعابةَ جالسها , أركانها موحشةٍ لا يكادُ يبلغها ضوءُ القمرِ , و رفوفٍ عليها بعض الكتبِ القديمةِ.
وفي إحدى أركانها يجلسُ رجلٌ رمادي اللحيةِ , عريض ُ الوجهِ متأملاًً الرفوف ؛ يصرخ بأعلى صوتهِ ، أبي ...... أبي أأكون على غِراركَ ؟ أأمتلك القدرةَََََ على نهجِ نهجكَ وحيازة بعض أمجادكَ ؟ أنا الشاب الواهن ذو الأعصابِ المختلة ِ و التفكيرِ المضطرب .
وهأنذا أُعيد السنة الدراسية من جديدٍ, لن أنساك ...... مربوعُ القامةِ مستديرُ الوجهِ تتألفُ في عينيه نظراتٍ نفاذةٍ فقد كنت أخشاهُ , أخشى صوتَهُ الجهوري العريض, أخشى شهرتهُ العالمية كمؤلفٍ عظيم و لكني مازلت أذكرُ حنانه ُ و هو يمسحُ على رأسي و يقبلني ؛ فنحن فئة من الشباب الحائر , نحيا في عهد فسادٍ و انحلال وبين جنوبنا روح الثورة و لكننا نظل ُ في حيرتنا متخبطين في ظلام شديدٍ؟ فكلما فكرتُ فيما نحن فيه تتجمدُ الأفكارُ في رأسي ؛ أقفُ حائراً لا أعرف طريقِ فألجاءُ مسرعاً للبيت القديم ؛وأقفُ أتأمل رفوف الكتب لعلي أهرب بروحي من جسدِ لأني فاقد ٌ لحنان أبوي منذ زمنٍ بعيدٍ, و صلتي بأهلي متراخية ِ، فشببت حراً طليقاً لا أخضعُ لأمر أي ّ أحداً, أصبت بجروحٍ كادت تقضي على لطيشي ؛ انقطعت عن الدراسة فترةً طويلةً و بعدها حاولت الرجوع و لكنني فشلت .
فأصبحت أرددُ عبارة أبي المشهورةِ :
شاب الفؤاد قبل مشيب الرأس فياويلتي من حياةٍ بلا فؤاد.
َتَذكرُ هذه العبارةِ أيقظ بنفسي أملا ً جديداً, و سرت بروحي قشعريرةٍ شديدةٍ لم أدرك سببها الحقيقي ؛ لذلك سرت متوجهاً نحو الرفوف و مددت يدي و تناولت كتاباً كانت تعلوهُ غبرة كثيفة , نظفتها جيداً و أخذتُ أقلبُ صفحاتِ الكتابِ ، وبعدَ قراءةِ لمجموعةٍ من الصفحات ِ لفتَ إنتباهي صورةٌ لرجلٍ كان يَصنعُ من وجههِ النحيفِ مثلثاً رشيقاً صغيراً ؛ ولكل وجههٍ في الدنيا قصةٌ يحكيها أو معنى أو صيحةٍ يُطلقها ليعبر عن أعماقِ صاحبهِ , ذلك الوجه كان من الوجوه التي لا تتحدث عن نفسها .....
من الوجوه التي نحس بها دائماً مشغولة بحدثٍ خارج ٍ عنها أو بقضيةٍ و لحظة رؤيتي الثانيةِ له لم يكن وجهه يتحدث عن شيءٍ بالذات فقد كان صامتاً ... صمتاً لو صبرت عليه لاستحال إلى حزنٍ, حزناً لابد شفافاً كحزنِ الملائكةِ أو بئس الأطفال , هذا الحزن البادِ بوجههِ قادني لمعرفةِ من يكون صاحبُ الوجهِ فقراءةُ عنه وكانت دهشتي كبيرة عندما اكتشفت بأنه أشهرُ مصارع ٍ للثيران دفع حياتهُ ثمنَ هذا الحب وهذه أخرُ صورةٍ له قبلَ موتهِ بدقائقٍ . إذن كان يعرفُ بأنه ميت لا محال واستمر بعملهِ الذي يحبهُ ما أغرب هذا الإنسان الذي يحب و يضحي من أجل ما يحب هناك فرقٌ كبيرٌ بيني و بينهُ فأنا أحبُ الوطن و لكني جبانٌ لخطةَ شعورِ باقتراب ِ الموتِ أنسحب هارباً لهذه الغرفةِ المعتمةِ , لا أعرفُ ما أريدُ يا أبي , أحتقرُ نفسي كلما وقع نظرِ على كتبكَ كنت في كل مرةٍ أحاولُ حرقها, تمزيقها, ولكنني لا لا أستطيع ذلك .
فينتابني شعورٌ آخرٌ غريبٌ شعورٍ الخوفِ القلقِ و الحزنِ معاً لذلك قررتُ العودةَ لركن ِ الغرفةِ لأتأملَ نفسي لعلي أدركُ ما أريد , و مرّ الوقت ببطءٍ شديدٍ و لشدةِ الظلمة أخذَ النومُ مني نصيباً و إذا بأبي يَشُدُن ِ من يدي لمكان ٍٍ لم أشاهدهُ من قبل , مكان ٍ مضيءٍ فيه أناسٌ كثيرون يتحدثون بلغاتٍ متعددةٍ كنت مستغرباً لفهمي ما يقولون , ولكن أبي طمئنني بقوله :
هذه أفكارِ يا ولدي لا تخف فقد انتشرت في كل مكان ٍ و ترجمت لأكثر من لغةٍ لذلك تفهمها لنقشها بعقلكَ جلست معهم بضعَ ساعاتٍ و إذا بي أتحدثُ مثلهم و أكون لي أفكاراً جديدةً و أحدثهم بها , فتفاجئةُ لعدم فهمهم و كأنهم لم يسمعوني فشعرت بخيبةِ أملٍ جديدةٍ فنظرَ أبي لي و قال :
لا تقلق هذه أفكاركَ يا بني لا يعرفونها فهي وليدةُ اللحظة , أما أفكاري فقد مرّ عليها عصورٌ كثيرة , لذلك لا تخف طوّر أفكاركَ وأكتب و ستجدها أن شاء الله منتشرة ٌفي كل مكان ٍ , لذلك أكتب و لا تخف اكتب فاستيقظتُ و أنا أردد عبارة أكتب لا تخف ؛ فحملتُ القلم و كنت منذ زمن ٍ لم احمله و بدأت بالكتابة فأصابتني الدهشة عندما شعرت بالراحة التي بحثت عنها , أصبحت أكتب وأكتب لأتعرف على نفسي من جديد , فانتشرت أفكاري في العلم و برغم شهرتي حافظت على الغرفة القديمة كما هي .







ليست هناك تعليقات: